فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال البيضاوي:

سورة العلق:
مكية.
وآيها تسع عشرة آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{اقرأ باسم رَبّكَ} أي اقرأ القرآن مفتتحًا باسمه سبحانه وتعالى. أو مستعينًا به.
{الذى خلق} أي الذي له الخلق أو الذي خلق كل شيء، ثم أفرد ما هو أشرف وأظهر صنعًا وتدبيرًا وأدل على وجوب العبادة المقصودة من القراءة فقال: {خلق الإنسان} أو الذي {خلق الإنسان} فأبهم أولًا ثم فسر تفخيمًا لخلقه ودلالة على عجيب فطرته.
{مِنْ علق} جمعه على {الإنسان} في معنى الجمع ولما كان أول الواجبات معرفة الله سبحانه وتعالى نزل أولًا ما يدل على وجوده وفرط قدرته وكمال حكمته.
{اقرأ} تكرير للمبالغة، أو الأول مطلق والثاني للتبليغ أو في الصلاة ولعله لما قيل له: {اقرأ باسم رَبّكَ} فقال: «ما أنا بقارئ» فقيل له اقرأ: {وَرَبُّكَ الأكرم} الزائد في الكرم على كل كريم فإنه سبحانه وتعالى ينعم بلا عوض ويحلم من غير تخوف، بل هو الكريم وحده على الحقيقة.
{الذى عَلَّمَ بالقلم} أي الخط بالقلم، وقد قرئ به لتقيد به العلوم ويعلم به البعيد.
{عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يعلم} بخلق القوى ونصب الدلائل وإنزال الآيات فيعلمك القراءة وإن لم تكن قارئًا، وقد عدد سبحانه وتعالى مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه إظهارًا لما أنعم عليه، من أن نقله من أخس المراتب إلى أعلاها تقريرًا لربوبيته وتحقيقًا لأكرميته، وأشار أولًا إلى ما يدل على معرفته عقلًا ثم نبه على ما يدل عليها سمعًا.
{كَلاَّ} ردع لمن كفر بنعمة الله بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه.
{إِنَّ الإنسان ليطغى}.
{أَن رَّءاهُ استغنى} أن رأى نفسه، و{استغنى} مفعوله الثاني لأنه بمعنى علم ولذلك جاز أن يكون فاعله ومفعوله ضميرين لواحد.
{إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى} الخطاب للإنسان على الالتفات تهديدًا وتحذيرًا من عاقبة الطغيان، و{الرجعى} مصدر كالبشرى.
{أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْدًا إِذَا صلى} نزلت في أبي جهل قال لو رأيت محمدًا ساجدًا لوطئت عنقه، فجاءه ثم نكص على عقبيه فقيل له مالك، فقال إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولًا وأجنحة. فنزلت ولفظ العبد وتنكيره للمبالغة في تقبيح النهي والدلالة على كمال عبودية المنهي.
{أَرَءَيْتَ إِن كَانَ على الهدى أَوْ أَمَرَ بالتقوى} {أرأيت} تكرير للأول وكذا الذي في قوله: {أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى أَلَمْ يعلم بِأَنَّ الله يرى} والشرطية مفعوله الثاني وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب الشرط الثاني الواقع موقع القسيم له. والمعنى أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على هدى فيما ينهى عنه، أو آمرًا {بالتقوى} فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقده، أو إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الصواب كما تقول، {أَلَمْ يعلم بِأَنَّ الله يرى} ويطلع على أحواله من هداه وضلاله.
وقيل المعنى {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْدًا} يصلي والمنهي على الهدى آمرًا بالتقوى، والناهي مكذب متولٍ فما أعجب من ذا. وقيل الخطاب في الثانية مع الكافر فإنه سبحانه وتعالى كالحاكم الذي حضره الخصمان يخاطب هذا مرة والآخر أخرى، وكأنه قال يا كافر أخبرني إن كان صلاته هدى ودعاؤه إلى الله سبحانه وتعالى أمرًا بالتقوى أتنهاه، ولعله ذكر الأمر بالتقوى في التعجب والتوبيخ ولم يتعرض له في النهي لأن النهي كان عن الصلاة والأمر بالتقوى، فاقتصر على ذكر الصلاة لأنه دعوة بالفعل أو لأن نهي العبد إذا صلى يحتمل أن يكون لها ولغيرها، وعامة أحوالها محصورة في تكميل نفسه بالعبادة وغيره بالدعوة.
{كَلاَّ} ردع للناهي.
{لئن لم ينته} عما هو فيه.
{لَنَسْفَعًا بالناصية} لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار، والسفع القبض على الشيء وجذبه بشدة، وقرئ {لنَسْفَعَنَّ} بنون مشددة و{لأسفعن}، وكتابته في المصحف بالألف على حكم الوقف والاكتفاء باللام عن الإِضافة للعلم بأن المراد ناصية المذكور.
{نَاصِيَةٍ كاذبة خاطئة} بدل من الناصية وإنما جاز لوصفها، وقرئت بالرفع على هي ناصية والنصب على الذم ووصفها بالكذب والخطأ، وهما لصاحبها على الإسناد المجازي للمبالغة.
{فَلْيَدْعُ ناديه} أي أهل ناديه ليعينوه وهو المجلس الذي ينتدي فيه القوم.
روي أنا أبا جهل لعنه الله مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقال: ألم أنهك، فاغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديًا فنزلت: {سَنَدْعُ الزبانية} ليجروه إلى النار وهو في الأصل الشرط واحدها زبنية كعفرية من الزبن وهو الدفع، أو زبني على النسب وأصلها زباني والتاء معوضة عن الياء.
{كَلاَّ} ردع أيضًا للناهي.
{لاَ تُطِعْهُ} أي أثبت أنت على طاعتك.
{واسجد} داوم على سجودك.
{واقترب} وتقرب إلى ربك وفي الحديث: «أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد»، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصل كله». اهـ.

.قال أبو حيان:

سورة العلق:
{اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خلق (1)}
وقرأ الجمهور: {اقرأ} بهمزة ساكنة؛ والأعشى، عن أبي بكر، عن عاصم: بحذفها، كأنه على قول من يبدل الهمزة بمناسب حركتها فيقول: قرأ يقرأ، كسعى يسعى.
فلما أمر منه قيل: اقر بحذف الألف، كما تقول: اسع، والظاهر تعلق الباء بـ: {اقرأ} وتكون للاستعانة، ومفعول {اقرأ} محذوف، أي اقرأ ما يوحى إليك.
وقيل: {باسم ربك} هو المفعول وهو المأمور بقراءته، كما تقول: اقرأ الحمد لله.
وقيل: المعنى اقرأ في أول كل سورة، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم.
وقال الأخفش: الباء بمعنى على، أي اقرأ على اسم الله، كما قالوا في قوله: {وقال اركبوا فيها بسم الله} أي على اسم الله.
وقيل: المعنى اقرأ القرآن مبتدئًا باسم ربك.
وقال الزمخشري: محل {باسم ربك} النصب على الحال، أي اقرأ مفتتحًا باسم ربك، قل بسم الله ثم اقرأ، انتهى.
وهذا قاله قتادة.
المعنى: اقرأ ما أنزل عليك من القرآن مفتتحًا باسم ربك.
وقال أبو عبيدة: الباء صلة، والمعنى اذكر ربك.
وقال أيضًا: الاسم صلة، والمعنى اقرأ بعون ربك وتوفيقه.
وجاء {باسم ربك}، ولم يأت بلفظ الجلالة لما في لفظ الرب من معنى الذي رباك ونظر في مصلحتك.
وجاء الخطاب ليدل على الاختصاص والتأنيس، أي ليس لك رب غيره.
ثم جاء بصفة الخالق، وهو المنشئ للعالم لما كانت العرب تسمي الأصنام أربًا.
أتى بالصفة التي لا يمكن شركة الأصنام فيها، ولم يذكر متعلق الخلق أولًا، فالمعنى أنه قصد إلى استبداده بالخلق، فاقتصر أو حذف، إذ معناه خلق كل شيء.
ثم ذكر خلق الإنسان، وخصه من بين المخلوقات لكونه هو المنزل إليه، وهو أشرف.
قال الزمخشري: أشرف ما على الأرض، وفيه دسيسة أن الملك أشرف.
وقال: ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان، كما قال: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان} فقيل: الذي خلق مبهمًا، ثم فسره بقوله: {خلق} تفخيمًا لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته، انتهى.
والإنسان هنا اسم جنس، والعلق جمع علقة، فلذلك جاء من علق، وإنما ذكر من خلق من علق لأنهم مقرون به، ولم يذكر أصلهم آدم، لأنه ليس متقررًا عند الكفار فيسبق الفرع، وترك أصل الخلقة تقريبًا لأفهامهم.
ثم جاء الأمر ثانيًا تأنيسًا له، كأنه قيل: امض لما أمرت به، وربك ليس مثل هذه الأرباب، بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص.
و{الأكرم} صفة تدل على المبالغة في الكرم، إذ كرمه يزيد على كل كرم ينعم بالنعم التي لا تحصى، ويحلم على الجاني، ويقبل التوبة، ويتجاوز عن السيئة.
وليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم حيث قال: {الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم}، فدل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على أفضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو.
وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين ولا مقالاتهم ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا أمر الخط والقلم لكفى به.
ولبعضهم في الأقلام:
ورواقم رقش كمثل أراقم ** قطف الخطا نيالة أقصى المدى

سود القوائم ما يجد مسيرها ** إلا إذا لعبت بها بيض المدى

انتهى.
من كلام الزمخشري.
ومن غريب ما رأينا تسمية النصارى بهذه الصفة التي هي صفة لله تعالى: الأكرم، والرشيد، وفخر السعداء، وسعيد السعداء، والشيخ الرشيد، فيا لها مخزية على من يدعوهم بها.
يجدون عقباها يوم عرض الأقوال والأفعال، ومفعولا علم محذوفان، إذ المقصود إسناد التعليم إلى الله تعالى.
وقدر بعضهم {الذي علم الخط بالقلم}: وهي قراءة تعزى لابن الزبير، وهي عندي على سبيل التفسير، لا على أنها قرآن لمخالفتها سواد المصحف.
والظاهر أن المعلم كل من كتب بالقلم.
وقال الضحاك: إدريس، وقيل: آدم لأنه أول من كتب.
والإنسان في قوله: {علم الإنسان}، الظاهر أنه اسم الجنس، عدد عليه اكتساب العلوم بعد الجهل بها.
وقيل: الرسول عليه الصلاة والسلام.
{كلا إن الإنسان ليطغى}: نزلت بعد مدة في أبي جهل، ناصب رسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة، ونهاه عن الصلاة في المسجد؛ فروي أنه قال: لئن رأيت محمدًا يسجد عند الكعبة لأطأن على عنقه.
فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد عليه وانتهره وتوعده، فقال أبو جهل: أيتوعدني محمد! والله ما بالوادي أعظم ناديًا مني.
ويروى أنه همّ أن يمنعه من الصلاة، فكف عنه.
{كلا}: ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه، وإن لم يتقدم ذكره لدلالة الكلام عليه، {إن الإنسان ليطغى}: أي يجاوز الحد، {أن رآه استغنى}: الفاعل ضمير {الإنسان}، وضمير المفعول عائد عليه أيضًا، ورأى هنا من رؤية القلب، يجوز أن يتحد فيها الضميران متصلين فتقول: رأيتني صديقك، وفقد وعدم بخلاف غيرها، فلا يجوز: زيد ضربه، وهما ضميرا زيد.
وقرأ الجمهور: {أن رآه} بألف بعد الهمزة، وهي لام الفعل؛ وقيل: بخلاف عنه بحذف الألف، وهي رواية ابن مجاهد عنه، قال: وهو غلط لا يجوز، وينبغي أن لا يغلطه، بل يتطلب له وجهًا، وقد حذفت الألف في نحو من هذا، قال:
وصاني العجاج فيما وصني

يريد: وصاني، فحذف الألف، وهي لام الفعل، وقد حذفت في مضارع رأى في قولهم: أصاب الناس جهد ولو تر أهل مكة، وهو حذف لا ينقاس؛ لكن إذا صحت الرواية به وجب قبوله، والقراءات: جاءت على لغة العرب قياسها وشاذها.
{إن إلى ربك الرجعى}: أي الرجوع، مصدر على وزن فعلى، الألف فيه للتأنيث، وفيه وعيد للطاغي المستغني، وتحقير لما هو فيه من حيث ما آله إلى البعث والحساب والجزاء على طغيانه.
{أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى}: تقدم أنه أبو جهل.
قال ابن عطية: ولم يختلف أحد من المفسرين أن الناهي أبو جهل، وأن العبد المصلي وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وفي الكشاف، وقال الحسن: هو أمية بن خلف، كان ينهى سلمان عن الصلاة.
وقال التبريزي: المراد بالصلاة هنا صلاة الظهر.
قيل: هي أول جماعة أقيمت في الإسلام، كان معه أبو بكر وعليّ وجماعة من السابقين، فمرّ به أبو طالب ومعه ابنه جعفر، فقال له: صل جناح ابن عمك وانصرف مسرورًا، وأنشأ أبو طالب يقول:
إن عليًا وجعفرًا ثقتي ** عند ملم الزمان والكرب

والله لا أخذل النبي ولا ** يخذله من يكون من حسبي

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما ** أخي لأمّي من بينهم وأبي

ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
والخطاب في {أرأيت} الظاهر أنه للرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا {أرأيت} الثاني، والتناسق في الضمائر هو الذي يقتضيه النظم.
وقيل: {أرأيت} خطاب للكافر التفت إلى الكافر فقال: أرأيت يا كافر، إن كانت صلاته هدى ودعاء إلى الله وأمرًا بالتقوى، أتنهاه مع ذلك؟ والضمير في {إن كان}، وفي {إن كذب} عائد على الناهي.
قال الزمخشري: ومعناه أخبرني عن من ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله، وكان آمرًا بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدّين الصحيح، كما نقول نحن.
{ألم يعلم بأن الله يرى}، ويطلع على أحواله من هداة وضلالة، فيجازيه على حسب ذلك، وهذا وعيد، انتهى.
وقال ابن عطية: الضمير في {إن كان على الهدى} عائد على المصلي، وقاله الفراء وغيره.
قال الفراء: المعنى {أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى}، وهو على الهدى وأمر بالتقوى، والناهي مكذب متول عن الذكر، أي فما أعجب هذا ألم يعلم أبو جهل بأن الله تعالى يراه ويعلم فعله؟ فهذا تقرير وتوبيخ، انتهى.
وقال: من جعل الضمير في {إن كان} عائدًا على المصلي، إنما ضم إلى فعل الصلاة الأمر بالتقوى، لأن أبا جهل كان يشق عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن: الصلاة والدعاء إلى الله تعالى، ولأنه كان صلى الله عليه وسلم لا يوجد إلا في أمرين: إصلاح نفسه بفعل الصلاة، وإصلاح غيره بالأمر بالتقوى.
وقال ابن عطية: {ألم يعلم بأن الله يرى}: إكمال التوبيخ والوعيد بحسب التوفيقات الثلاثة يصلح مع كل واحد منها، يجاء بها في نسق.
ثم جاء بالوعيد الكافي بجميعها اختصارًا واقتضابًا، ومع كل تقرير تكلمة مقدرة تتسع العبارات فيها، وألم يعلم دال عليها مغن.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما متعلق {أرأيت}؟
قلت: {الذي ينهى} مع الجملة الشرطية، وهما في موضع المفعولين.
فإن قلت: فأين جواب الشرط؟
قلت: هو محذوف تقديره: {إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى}، {ألم يعلم بأن الله يرى}، وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني.
فإن قلت: فكيف صح أن يكون {ألم يعلم} جوابًا للشرط؟
قلت: كما صح في قولك: إن أكرمتك أتكرمني؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه؟ فإن قلت: فما {أرأيت} الثانية وتوسطها بين مفعولي {أرأيت}؟
قلت: هي زائدة مكررة للتوكيد، انتهى.
وقد تكلمنا على أحكام {أرأيت} بمعنى أخبرني في غير موضع منها التي في سورة الأنعام، وأشبعنا الكلام عليها في شرح التسهيل.
وما قرره الزمخشري هنا ليس بجار على ما قررناه، فمن ذلك أنه ادعى أن جملة الشرط في موضع المفعول الواحد، والموصول هو الآخر، وعندنا أن المفعول الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية، كقوله: {أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلًا وأكدى أعنده علم الغيب} {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالًا وولدا أطلع الغيب} {أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه} وهو كثير في القرآن، فتخرج هذه الآية على ذلك القانون، ويجعل مفعول {أرأيت} الأولى هو الموصول، وجاء بعده {أرأيت}، وهي تطلب مفعولين، وأرأيت الثانية كذلك؛ فمفعول {أرأيت} الثانية والثالثة محذوف يعود على {الذي ينهى} فيهما، أو على {عبدًا} في الثانية، وعلى {الذي ينهى} في الثالثة على الاختلاف السابق في عود الضمير، والجملة الاستفهامية توالى عليها ثلاثة طوالب، فنقول: حذف المفعول الثاني لأرأيت، وهو جملة الاستفهام الدال عليه الاستفهام المتأخر لدلالته عليه.
حذف مفعول {أرأيت} الأخير لدلالة مفعول {أرأيت} الأولى عليه.
وحذفًا معًا لـ: {أرأيت} الثانية لدلالة الأول على مفعولها الأول، ولدلالة الآخر لـ: {أرأيت} الثالثة على مفعولها الآخر.
وهؤلاء الطوالب ليس طلبها على طريق التنازع، لأن الجمل لا يصح إضمارها، وإنما ذلك من باب الحذف في غير التنازع.
وأما تجويز الزمخشري وقوع جملة الاستفهام جوابًا للشرط بغير فاء، فلا أعلم أحدا أجازه، بل نصوا على وجوب الفاء في كل ما اقتضى طلبًا بوجه مّا، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة شعر.
{كلا}: ردع لأبي جهل ومن في طبقته عن نهي عباد الله عن عبادة الله.
{لئن لم ينته} عن ما هو فيه، وعيد شديد {لنسفعًا}: أي لنأخذن، {بالناصية}: وعبر بها عن جميع الشخص، أي سحبًا إلى النار لقوله: {فيؤخذ بالنواصي والأقدام} واكتفى بتعريف العهد عن الإضافة، إذ علم أنها ناصية الناهي.
وقرأ الجمهور: بالنون الخفيفة، وكتبت بالألف باعتبار الوقف، إذ الوقف عليها بإبدالها ألفًا، وكثر ذلك حتى صارت رويًا، فكتبت ألفًا كقوله:
ومهما تشأ منه فزارة تمنعا

وقال آخر:
بحسبه الجاهل ما لم يعلما

ومحبوب وهارون، كلاهما عن أبي عمرو: بالنون الشديدة.
وقيل: هو مأخوذ من سفعته النار والشمس، إذا غيرت وجهه إلى حال شديد.
وقال التبريزي: قيل: أراد لنسودن وجهه من السفعة وهي السواد، وكفت من الوجه لأنها في مقدمة.
وقرأ الجمهور: {ناصية...خاطئة}، بجر الثلاثة على أن ناصية بدل نكرة من معرفة.
قال الزمخشري: لأنها وصفت فاستقبلت بفائدة، انتهى.
وليس شرطًا في إبدال النكرة من المعرفة أن توصف عند البصريين خلافًا لمن شرط ذلك من غيرهم، ولا أن يكون من لفظ الأول أيضًا خلافًا لزاعمه.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي: بنصب الثلاثة على الشتم؛ والكسائي في رواية: برفعها، أي هي ناصبة كاذبة خاطئة، وصفها بالكذب والخطأ مجازًا، والحقيقة صاحبها، وذلك أحرى من أن يضاف فيقال: ناصية كاذب خاطئ، لأنها هي المحدث عنها في قوله: {لنسفعًا بالناصية}.
{فليدع ناديه}: إشارة إلى قول أبي جهل: وما بالوادي أكبر ناديًا مني، والمراد أهل النادي.
وقال جرير:
لهم مجلس صهب السبال أذلة

أي أهل مجلس، ولذلك وصف بقوله: صهب السبال أذلة، وهو أمر تعجبي، أي لا يقدره الله على ذلك، لو دعا ناديه لأخذته الملائكة عيانًا.
وقرأ الجمهور: {سندع} بالنون مبنيًا للفاعل، وكتبت بغير واو لأنها تسقط في الوصل لالتقاء الساكنين.
وقرأ ابن أبي عبلة: {سيدعى} مبنيًا للمفعول الزبانيه رفع.
{كلا}: ردع لأبي جهل، ورد عليه في: {لا تطعه}: أي لا تلتفت إلى نهيه وكلامه.
{واسجد}: أمر له بالسجود، والمعنى: دم على صلاتك، وعبّر عن الصلاة بأفضل الأوصاف التي يكون العبد فيها أقرب إلى الله تعالى، {واقترب}: وتقرّب إلى ربك.
وثبت في الصحيحين سجود رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إذا السماء انشقت} وفي هذه السورة، وهي من العزائم عند علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وكان مالك يسجد فيها في خاصية نفسه. اهـ.